﴿أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِا۟ئَةَ عَامࣲ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ یَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰاۚ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾ [البقرة ٢٥٩]
.
آية عجيبة أخرى من سورة البقرة ، تشبه آية الدين (تحدثت عنها سابقا) ، تشبهها من حيث أحد أهدافها وهو صناعة العقلية المتطورة المنتجة للحضارة والمدنية .
قلت عن الآية بأنها مثل الشريحة الإلكترونية تحقن في الدماغ فتصحح فيه طريقة التفكير وتمنحه المنهجية وتفتح فيه آفاقا وتزيده درجات في الذكاء .
آية واحدة تختصر علينا جهودا كبيرة وقرونا كثيرة في البحث عن قواعد الحضارة .
انظروا : …..


1 – استغرب الإنسان من قدرة الله في إحياء قرية خربة كانت متألقة من قبل ، كأنما استبعد إمكانية إحياء الحضارة بعد أفولها ، فجاءه الجواب فورا ، فضرب له المثال بالحمار وليس شيئا آخر ، وفيه شيء من التوبيخ والتقريع أن استغرب من بديهية إلهية ، فكان مثالا من شيء أدنى شأنا .
.
2 – أشعر وكأنما الخطاب الإلاهي لذلك الإنسان كان بغضب ، لم يخبره أنه سيموت ، بل أماته فورا بعد سؤال يكون قد جال في خاطره فقط ولم ينطق به ، فلم يحمد له السلامة بعد استيقاظه بل طرح عليه سؤالا جافا صارما ساخرا (كم لبثت ؟).
.
3 – يعجز عقل الإنسان أن يميز الزمن فهو خاضع له فقط ، فالمئة سنة في تقديره مثل يوم أو أقل( لبثت يوما أو بعض يوم) ، فعقلنا عاجز فعلا عن تقدير الحوادث لمئات السنين ، وتشترك عقول كثيرة منا لنستشرف لعشرات قليلة من السنين .
.
4 – عقولنا مبنية على تمييز الزمن بالحوادث المتأثرة بالزمن ، فيعجز عقلنا التعامل مع الزمن المجرد ، ففي المنحنى البياني مثلا يجبرنا عقلنا على اختصار محور الزمن فيه اذا كان محور التغيرات يحمل قيما لحوادث ثابتة ، ولذلك كان تصحيح المدة (مئة عام) في ذهن الإنسان بحوادث رآها يمكن للعقل تقدير زمانها .
.
5 – في الآية طريقة في التعليم عملية ، تبدأ بالشكل العام (انظر الى حمارك ) أو الأفكار البسيطة ، ثم تنتقل الى التفاصيل (وانظر الى العظام ) أو الأفكار المعقدة التي تقتضي التركيز ، بدليل تكرار الأمر بالنظر .
.
6 – في الحوار أمر مدهش ، أنه بإمكاننا في حياتنا طرح الأفكار الخارقة فعقولنا تستجيب لها وتتعامل معها طالما يقوم أمامها مثال يفهمه العقل ، فالإنسان تعجب من جواب (بل لبثت مئة عام) ولن يصدق ، بل سيرفض هذا الجواب حتما ، ثم يعود لقبوله بعد أن يرى المثال .
7 – يجوز صدم العقل بضرب المسلمات البديهية لديه ، قصفا قويا في قناعاته ، فيجري مقارنة بين الضعيف (فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه) فرغم ضعغه وبساطته لم يخضع لتأثير الزمن ، والقوي (وانظر إلى حمارك) فرغم قوته وتعقيده فقد تلاشى مع الزمن .
.
8 – في الآية تدريب عملي على إحدى تطبيقات المنهج التجريبي في البحث العلمي ، تكوين مباشر على التحليل والتركيب والإستنتاج ، فقد رأى ذلك الإنسان تحليل أو تفكيك حيوان الحمار ، ثم شاهد التركيب ، فوصل إلى الإستنتاج أن الحوادث خاضعة للزمن بأمر الله وأنها تسير وفق قواعد مادية يمكن فهمها ، وأخيرا وصل الى اليقين أن الله على كل شيء قدير .
.
9 – عجيبة أخرى رأيتها في الآية ، أن ذلك الإنسان رأى طريقة تركيب حيوان ، مراحل كثيرة ، تبدأ بتجميع الرميم وتشكيل العظام (الهيكل)،ثم (نكسوها لحما) ، وفيها مراحل تكوين الأجهزة الكثيرة ، رأى كل ذلك يحدث أمام ناظريه بشكل سريع لا يخضع لعامل الزمن ، فقد مر ذلك الحيوان بذات المراحل من قبل لكن خلال زمن طويل .
لنضع أنفسنا مكان ذلك الإنسان ، فسنشاهد ذلك الفيلم مثلما نشاهد اليوم فيلما توضيحيا لنمو نبات وتفتح زهرة ونضوج ثمرة وبناء عمارة وتركيب سيارة ونشوء حضارة …الخ ، فكأنما توحي لنا الآية بهذه التقنية ، وتعلمنا آلية يمكن تطويرها لصناعة حاجاتنا وبناء مدننا في الظرف الزمني الوجيز .
10 – تعلمنا الآية فكرة النسبية ، النسبية في كل شيء ، النسبية في الزمن ، والنسبية في القدرة ، والنسبية في تأثير العوامل الطبيعية ، والنسبية في قيمة الأشياء ، والنسبية في الأفكار المعنوية ، فالآية تؤكد ثبات الأمل أن الله يحيي الحضارات مثلما يحيي الأنفس ، فالتساؤل كان عن إحياء القرية وليس عن إحياء إنسان فقط .
.
11 – «لنجعلك آية للناس «، معجزة لقومك وشعبك ، وللبشر أجمعين ، أنكم بأيدينا خاضعين لإرادتنا تحيون ضمن برنامجنا ، فنحن من يقرر حياتكم وموتكم ، ونحن من يهبكم الزمان والمكان ، فنهيب بكم أن ترتقوا بأنفسكم فتستخدموا القدرة المودعة في عقولكم وتطوعوا الطبيعة من حولكم فتحيوا حضارتكم ، فمجال الإجتهاد لديكم واسع بين حدي الزمن المطلق والنسبي ، بين الجزء المتناهي في الصغر والجزء المتناهي في الكبر ، بين المتناسب في البساطة والتعقيد .
.
12 – القرآن كتاب الإنسان خاص به ، أهدي له ليبني الحضارة ، فمثلما يهذب نفسه ويقوم سلوكه ، يصحح له أفكاره ويجدد فيه منهجية التفكير والإبداع ، قرآن تأتي الآية منه بسيطة في المبنى لكنها غزيرة في المعنى ، فلا تستخف بها فيضرب لك المثل بالحمار ، فهمت ؟

Deja una respuesta

Tu dirección de correo electrónico no será publicada. Los campos obligatorios están marcados con *